قيد الإنشاء - أنتم الآن في رحاب ملتقى الأدب الوجيز - قيد الإنشاء

الأربعاء، 17 أكتوبر 2018

قصائد تبحث عن وَمضتها !

د. باسل الزين 

د. باسل الزين * البناء 17 تشرين الأول 2018


صَدَّر أدونيس كتابَه «ديوان البيت الواحد» بالقول: «… تنهض هذه المُحاولة على قاعدة البيت الواحد. وهو بيت يقوم على الفكرة الومضة، أو الصّورة اللّمحة، أو المعنى الصّورة… هكذا ينفتح مجال آخر لامتحان التّجربة، رؤيةً وكشفًا». ويُضيف في موضع لاحق من التّصدير: «اللّغة في هذا كلّه تتجاوز كونها أداة إيصال أو تخاطب أو تفاهم، لتكون طاقة اكتشاف وإبداع».
إنّ الوقوف على مرامي هذه العبارات المختارة من النّصّ الأدونيسيّ يقتضي قبل كلّ شيء التّعريف بهذه المحاولة الجريئة الّتي أنجزها الشّاعر ونشرها في العام 2010، وهي لعمرنا محاولة تصبّ مباشرة في خانة النّضوج الفكريّ والاكتمال البنيويّ لمسيرة فكريّة وشعريّة خاضها الشّاعر منذ ما يربو على الخمسين عامًا.

وبشيء من التّفصيل: لقد عمد أدونيس إلى عمليّة انتقاء حاذقة وفطنة لأبيات بعينها تنتمي إلى تراث شعريّ طويل جدًّا، وإن رسف عند حدود القصيدة العموديّة، وهو رسوف مقصود رام الشّاعر من خلاله استنطاق خبايا شعر الومضة إذا جاز التّعبير، في ضرب من إعادة التّأسيس الّذي ننتظر استبيان ملامحه في نتاجاته اللاحقة. وعليه، فإنّ عمليّة الانتقاء هذه لم تكن عبثيّة أو خاضعة لنوع من التّأويل الجماليّ بقدر ما كانت محاولة للقبض على اللّحظة الذّروة في بنية القصيدة العربيّة الكلاسيكيّة بعامّة. ومن هذا المنطلق، يُمكن تفسير العمل الشّاقّ والجبّار الّذي قام به أدونيس على أنّه تكريس لمقولة نحاول أن نفتضّ أبعادها بأنفسنا، فنجسر على القول إنّ القصيدة بما هي صرح بنائيّ مكتمل العناصر ومشدود الأواصر تروم خلف ما تروم لحظة تجلٍّ بعينها تكون هي اللّحظة المنشودة في سياق نموّ التّجربة واوتعاء الانفعال ورصد الحركة النّفسيّة الدّاخليّة والتّماهي مع عناصر الوجود في ضرب من الكشف والحلوليّة. وبهذا المعنى، إنّ القصيدة مهما طالت أو قصرت فهي لا بدّ منطوية على لُبنة أساسيّة وطفرة مركزيّة تدور المعاني حولها ويتحلّق الإيقاع في مدارات رسمها ويتكشّف اللّفظ عن لحظتها المتعالية. وبتعبير آخر، تغدو القصيدة الشّعريّة، والحالة هذه، تمرينًا صرفًا وتتويجًا محضًا للحظة بعينها بحيث تسقط اللّحظات الآنية الأخرى، وتفسح في المجال أمام تتويج نصّيّ لصورة متألّقة أو لكشف بيّن. وفي هذا السّياق، تغدو جميع الصّور الأخرى مُنضافة إلى الحشد اللّغويّ والاسترسال النّصّيّ والفيض الشّعوريّ خليّة شعر تُعبِّد الطّريق أمام اللحظة الشّعريّة المنتظرة، وبلغة أدونيس: «هنا في البيت الواحد يصفو الإيجاز وتتكثّف حكمة البداهة وبداهة الحكمة».
انطلاقًا من هذا التّأسيس النّظريّ، يُمكن القيام بعمليّة إسقاط بسيطة مفادها نقل التّجربة الأدونيسيّة إلى مجمل القول الشّعريّ بصفة عامّة. وبتعبير أوضح، نجسر على القول إنّ اللّحظة الشّعريّة المتعالية هي اللّحظة الّتي يرومها كلّ شاعر، ويُنفق جلّ جهده في البحث عنها. ويقيننا أنّ الشّعراء حين يخلدون إلى عمليّة نقد ذاتيّة مركزيّة ووازنة فإنّهم لا يتوانون عن إسقاط كلّ اللّحظات الضّبابيّة والمكنونات الاستعداديّة والعبارات التّشريحيّة والقابليّات الجماليّة بغية تكريس صورة بعينها تُشكّل بالنّسبة إليهم مرام الكشف وخبايا القصد.
ومّما تقدّم، نرى أنّ السؤال عن مشروعيّة شعر الومضة بات بحكم البداهة لندفع بالمعنى قُدمًا ونسأل عن ماهيّة المطوّلات وما إذا كانت في حقيقة الأمر تروم لحظة شعريّة متألّقة ومتكثّفة. وبعبارة أوضح، إذا كانت القصيدة في منتهى القول تتويجًا لصورة منشودة وتكثيفًا لرؤيا بعينها، فلِم لا يتمّ الاصطبار على التّجربة الشّعريّة، وإسقاط ما ينبغي إسقاطه قبل الشّروع في عمليّة الكتابة نفسها؟ لِم لا يركن الشّاعر إلى فوضاه وينتخب اللّحظة الأنقى والتتّويج الأمثل والتّعبير الأنقى فيزجّ به أي التّعبير- في قالب شعريّ مكتمل من دون تكبّد عناء الجريان واللّهاث حول اللحظة الخاطفة، ومن دون تكبيد القارئ مهمّة استجلاء هذه الومضة من بين ركام العبارات المتهالكة والصّور المجترّة والمطوّلات البائدة؟
حقيقة الأمر، أنّ المسألة تتطلّب جرأة واعترافًا قبل كلّ شيء. ومن النّافل القول إنّ الشّعر العربيّ ظلّ يُعاني قرونًا حتّى تمكّن من إفراغ القصيدة من مطلعها الطّلليّ. لكنّ الثّورة الشّعريّة، إذا جاز القول، قد انتهت بتكريس أطلال جديدة، تليها أطلال في ضرب من الارتكاسيّة تغدو معها كلّ عمليّة تحديث أو تغيير محاولة جوفاء تُرشق بالاتّهامات وتُنعَت بأقذع النّعوت وتُسلب أبسط حقوقها في بسط مبادئها وتبيان وجهة نظرها وتعميق بنيانها ورصد توجّهاتها.
في مطلق الأحوال، يبقى النّصّ الشّعريّ هو مَن يحكم على لحظته وينفي استرسالاته، على اعتبار أنّ الإدانة ها هنا تتمّ من داخل، أي في صلب النّتاج الشّعريّ نفسه. فنحن حين نقع على مطوّلة لا نأخذ بأسباب الشّرح والتّعليل والغوص والتّنقيب بقدر ما نجهد أنفسنا في قطف اللّحظة المضيئة والتّفكّر في أبعادها والوقوف على الإضافات الهائلة الّتي من المفترض أن تمنحنا إيّاها في نوع من الكشف الأخّاذ.
ولكي نتسوّر عند حدود القصيدة الكلاسيكيّة التزامًا بالإضاءات الأدونيسيّة الّتي اختططناها لأنفسنا منذ بداية المقاربة، يكفي أن نورد الشّواهد الآتية:

1 بيت لـ حاجِز الأزديّ يقول فيه:

فإن تأتني الدّنيا بيومي فُجاءةً تَجِدْني، وقد قضّيتُ منها مآربي

2 بيت لأبي ذؤيب الهُذليّ يقول فيه:

يرمي بعينيه الغيوبَ وطرفُه مُغضٍ، يُصدِّق طرفه ما يسمع

3 بيت لـ جميل بثينة يقول فيه:

قريبانِ مربعُنا واحِدٌ فكيف كبرتُ ولم تكبري؟

غنيّ عن القول، إنّ هذه الأبيات المنتقاة قد جُرِّدت من سياقها المطوّل، لأنّها بالضّبط تنطوي على مقوّمات البقاء وتقنيّة الصّدم. وغنيّ عن القول أيضًا إنّ أصحابها ما كانوا ليختطّوا مطوّلاتهم إلّا ليصلوا إلى لحظة التّجلّي هذه.
فها هو حجر الأزديّ ينتصر للحياة قبالة الموت يحدوه أمل عميق بأنّه قضى مآربه من الحياة، بحيث يغدو تصويب الموت تصويبًا هشًّا ومتأخّرًا بعد أن اكتنز الشّاعر من دنياه ما شاء اكتنازه.
وقل كذلك عن ومضتي أبي ذؤيب وجميل.
فما ضرّ هؤلاء الشّعراء، وشعراء كثيرون غيرهم، لو اكتفوا بتصيّد هذه اللّحظة المتعالية، وعكفوا على نتاجهم فأعادوا إسقاط ما ينبغي إسقاطه، واكتفوا بجملة ومضات تحفر أسماءهم على بوّابة الخلود؟
إنّ الخلود لا يتّسع لجميع الأسماء، فيكفي أن يخطّ شاعر صورة فريدة متفرّدة ليقطف نجمًا من سماء الإبداع، ويدخل بريئًا خالصًا من الشّطط في قائمة النّاجين بفعل ومضة برقت بعيدًا في سماء المُتخيَّل.

*ناقد وعضو في ملتقى الأدب الوجيز


ليست هناك تعليقات:

جديد الموقع

#صباحكم_ومضة

اقرأ أيضًا

الأكثر مشاهدة