قيد الإنشاء - أنتم الآن في رحاب ملتقى الأدب الوجيز - قيد الإنشاء

الأربعاء، 30 أكتوبر 2019

من "كان يا مكان" إلى "القصة الوجيزة"

أ. د. درية كمال فرحات *


كان يا ماكان في قديم الأزمان" عبارة تربّى الكثير منّا عليها، فما من طفل إلّا وعشق الحكايات، وكان ينام على صوت والدته وهي تهدهد له وتروي حكاية تسهم في نومه، بل إنّ هناك سلسلة ظهرت سمّيت بحكايات جدّتي. ومن الواضح أنّ بداية الحكاية كان حكاية بحدّ ذاته، وقد جاءت من الموروث الشّعبيّ، ومنشؤها اجتماعيّ يرتبط ببيئة الرّاوي والمستمعين، وكانت هذه الحكايات هي التي تؤنس مجالس السّمر، وإفساحًا في المجال لتنويع الحكايات، واستمراريتها كانت تضاف الخبريات والأحداث على الحكاية، ما يبعد الملل عن السّامعين.
وبالنّظر إلى عبارة كان يا ما كان نرى أنّها قد تغيرت، فكانت عبارة طويلة: "كان يا مكان، يا مستمعي الكلام، الآن نحكي وبعد قليل ننام"، وقد يُضاف إليها عبارات ترتبط بالمفهوم الدّينيّ، ومع مرّ الزّمن اقتصرت على الجزء الأوّل منها. وربما لم يهتم الطّفل يومًا لمعنى هذه العبارة أو أهميتها، إنّما هي إشارة تدلّه على بدء الكلام، وفيها من التّشويق الذي يدفعه إلى الإنصات، والاستعداد إلى ما سيلقى عليه.

هذه الحكاية تمثّل الأسلوب الشّفويّ في القصّ، فالرّاوي هو العنصر المهيمن فيها، وهدفه شدّ اهتمام المتلقي والإمساك به ليصغي، ويتلقّى ما يسلّي ويمتع ويفيد، ولهذا يعمد الرّاوي إلى أن يسوق الحدث من دون أن يشير، بالضّرورة، إلى أسباب مفهومة تحفّز الأحداث والمواقف وتنمّيها وتطورّها. ومن الحكايات ظهرت الحكاية الخرافيّة أي الحكاية القصيرة ذات مغزى أخلاقيّ، شخصياتها في الغالب حيوانات ترمز إلى بشر معيّنين، وقد تحوّل كثير منها إلى أمثال، ومن أشهرها كتاب كليلة ودمنة.
وقد أدّت هذه الحكايات على مرّ الزمن دورها البارز في تنشئة الأجيال، إن كان ذلك وفق منهجية مرسومة أو عبر عفويتها وطبيعتها المرتبطة بالنّفوس، فكانت حكايات ألف ليلة وليلة التي برزت فيها شخصية شهرزاد التي رأت بأنّ أسلوب الحكايات هو المنقذ لها ولبني جنسها، فكانت الضّرورة تدفعها إلى الاستطراد في حكاياتها، والانتقال من حكاية إلى أخرى، لتبقي شهريار متعلّقًا بكلامها ولاحقًا مغرمًا بها، فكانت الإطالة بالحكايات.
ومن خلال ما سبق يمكن القول إنّ الأدب العربيّ القديم عرف النّتاج السّرديّ، وكانوا يتلهون بحكاياتهم ويتسامرون بها إلّا أنّ هذه الحكايات لم تكتمل فيها مقوّمات الفنّ القصصيّ الذي نعرفه هذه الأيام، وأشار البعض إلى أنّ العرب قد عرفوا الفنّ القصصيّ عبر ثلاثة أمور، أوّلها : فنّ المقامات وهو فنّ عربيّ أصيل، أخذت اسمها من المجلس الذي تطلق فيه القصص، وكان لها مميزات أهمها التّشويق واللّغة التي تعتمد على المحسنات البديعيّة وأبرزها السّجع. وثانيها رسالة الغفران لأبي العلاء المعريّ وهو نصّ فلسفيّ يتأمّل الوجود والتّاريخ والحياة، ويتأمّل أيضاً ضروب الإبداع الإنسانيّ، وأخرها قصة طوق الحمامة التي تنتمي إلى الغزل العذريّ.

وفي الغرب ظهرت القصّة، وبرزت أسماء لامعة ومنها "إدغار ألن بو" الذي يعدّ من روّاد القصّة القصيرة الحديثة في الغرب. وقد ازدهر هذا اللّون من الأدب، في أرجاء العالم المختلفة، طوال قرن مضى على أيدي "موباسان وزولا وتورجنيف وتشيخوف وهاردي وستيفنسن"، ومئات من فناني القصّة القصيرة. ومن الطّبيعيّ أنّ هذا النّوع أخذ وقته ومداه ليثبت شكله وتكوينه، فتوالت المحاولات، إلى أن كُتب لها الولادة بصورتها الكاملة على يد "رتشارد سن" في قصة "باميلا" العام 1740، فكانت البداية لنشأة القصّة الأدبيّة الحديثة، ويرى النّقاد أنّ هذه القصّة التي كانت نتيجة جهود متتالية، لكنّ المفارقة أنّها برزت وليدة المصادفة.
وبدأت المحاولات النّقديّة لتحديد القصّة وتسمية النّوع فمنهم من قسّمها إلى عدّة أنواع بحسب حجمها، فكانت الأقصوصة التي عدّوها مكوّنة من صفحة واحدة، وهناك القصّة القصيرة التي تكون عادة أكبر من الأقصوصة، أمّا القصّة القصيرة فهي التي تتضمّن أكثر من حدث وعدّة شخصيات، وصولًا إلى الرّواية وهي التي تستند إلى حوادث عديدة، وتكثر فيها الشّخصيات، وتتعدّد فيها الأزمنة والأمكنة. ومنهم من قسّم القصّة وفق قصّة الحادثة التي تستند إلى جوهر الحدث، وقصة الشّخصيّة التي يكون البطل هو المحور الذي تدور حوله أحداث القصّة، وهناك قصّة الفكرة التي تعتمد على فكرة الكاتب ويستطيع إيصالها عبر أحداث قصّته.
ويمكن القول إنّ القصّة القصيرة هي حديثة الولادة قياسًا لغيرها من الأجناس كالمسرح والشّعر..الخ، وقد كانت نتيجة المتغيّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وما يرتبط بها من متغيّرات في العالم. وحكمًا أنّنا نعيش في عصر التّغيّرات الدّائمة، والتّحوّلات المستمرة، التي تدفع بالإنسان إلى مسايرة هذه التحوّلات، وما الأدب إلا صورة لهذا الإنسان، فالأدب ابن بيئته، وإذا كنا قد بدأنا مع "كان يا ما كان"، فنحن أحوج اليوم إلى فنّ سرديّ يناسب وقع الحياة، وينقل الفكرة معتمدًا التكثيف ومركّزًا على طاقة المفردة، وتعتمد الوجيز في عباراتها.
نعم نصل إلى القصة الوجيزة (القصة القصيرة جدا) التي لن تناسب شهرزاد في زمنها ذلك، إنّما قد تناسب شهرزاد العصر التي لن تحتاج إلى حكايات وحكايات لتأسر شهريار وتحقّق الهدف من قضيتها، وحماية جنسها. هذه القصة الوجيزة التي يسعى ملتقى الأدب الوجيز في لبنان إلى تبيان أسسها وتحديد خصائصها، هذه الوجيزة التي تسعى إلى الإتيان بالجديد الذي يعبّر عن هوية عصر جديد.

* أستاذة في الجامعة اللبنانيّة / عضو ملتقى الأدب الوجيز

جريدة البناء


ليست هناك تعليقات:

جديد الموقع

#صباحكم_ومضة

اقرأ أيضًا

الأكثر مشاهدة