قيد الإنشاء - أنتم الآن في رحاب ملتقى الأدب الوجيز - قيد الإنشاء

الجمعة، 21 يونيو 2019

النقد العلمي والواقع الثقافي العربي

كامل فرحان صالح - kamel farhan saleh
كامل فرحان صالح - kamel farhan saleh
 ♦  د. كامل فرحان صالح

ورقة بحثية قدمت في:

مؤتمر ملتقى الأدب الوجيز التأسيسي في بيروت - 2019 بعنوان: 

الأدب الوجيز هوية تجاوزية جديدة

التنظيم: ملتقى الأدب الوجيز برعاية وزارة الثقافة اللبنانية، وبالشراكة مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية

المكان والتاريخ: بيروت في 21 حزيران 2019


النقد العلمي والواقع الثقافي العربي

 كامل فرحان صالح

أستاذ في الجامعة اللبنانية

أتناول في ورقتي بإيجاز شديد، ثلاث نقاط:

  • الأولى: في إشكالية العنوان
  • الثانية: في ما يفترض أن يكون نقدًا افتراضيًا
  • ثالثًا: في الواقع الأكاديمي الجامعي

- النقطة الأولى: في إشكالية العنوان

يبدو من المفيد بدايةً، التوضيح، أن هذا العنوان لا يمكن الحديث عنه وحصره في بضع صفحات، أو بضع مجلدات، إذ إنه عنوان مفتوح يعبّر بشكل من الأشكال عن المأزق الذي يعيشه الناقد والباحث والأكاديمي في العالم العربي؛ فمن جهة يلحظ المرء عبارة "النقد العلمي"، ومن جهة أخرى يرتسم أمامه "الواقع الثقافي العربي". ونحن في كل هذا، نعاني من الأَمرّين، والأمرّان هما: الجوع والعطش، ويقال الفقر والعري، ويقال الهَرَم والمرض. وإذا رفعنا شروح معنى "الأمرّين"، من مستواها المباشر إلى مستواها الدلالي، لقلنا بثقة مؤكدة: إن هذا هو واقع النقد العلمي في المشهد الثقافي العربي: فقر، وعجز، وأمراض نفسية، وجوع وعطش بسبب الشحّ.
وإذا أراد المرء أن يتوسع في الاضاءة على بعض هذه الكلمات، سيلاحظ أن:
الفقر يتمثل في مستويات مختلفة، منها فقر الدرس النقدي، وفقر المتابعة النقدية الجادة للأعمال الإبداعية.
والعجز يتمثل في عجز الابتكار في اللغة النقدية ومصطلحاتها، بعدما شهد العالم العربي مسارًا تصاعديًّا في المسألة النقدية منذ أن تنازع امرؤ القيس وعلقمة الفحل في الشعر، وقد ارتضيا لحكم أم جندب زوجة الأول، وصولاً إلى أواخر العصر العباسي مع عبد القادر الجرجاني في دلائل الاعجاز وأسرار البلاغة، عندما درس بنية النص الأدبي على أساس اللغة، مبرزًا في الوقت نفسه أهمية السياق.
والأمراض النفسية، تتمثل بموقف مسبق من النقد بحسبانه نقدًا للشخص لا لعمله، أو التوجه نحو كيل المدائح في شخص لغايات تكسبية، أو غايات جنسية في حال كانت امرأة، من دون نسيان الغرق في اللغة الذاتية البعيدة من اللغة الموضوعية التي قوام العمل النقدي، وتورم الأنا في كلا الطرفين الكاتب والناقد.
عنوان البحث إذًا، مفتوحٌ على مساحة واسعة، إذ يترجم المأزق الذي يشهده النقد العربي من جهة، ومأزق الواقع الثقافي العربي من جهة أخرى.
من هنا، يبدو واضحًا للمتابع أننا نعيش أزمة عمودية حادة على مستوى بنية المجتمع العربي عمومًا، والمجتمع الثقافي خصوصًا، وإذا كانت فلسفة النقد التي رافقت مسيرة الإنسان على الأرض، تنطلق أساسًا من أن يميز هذا الإنسان بين الحسن والرديء، فإننا أمام ما نشهده اليوم، يمكننا القول:
إن ذائقة الإنسان بدت في مكان ما، عاجزة عن التمييز بين السيء والرديء. بل ثمة من يرى أننا نعيش في "أوج عصر التفاهة" [1]، و"سيطرة التافهين على العالم" [2]، في عصر بات الحكم فيه لـ"اللايك" و"الكومنت" و"التاغ"[3] و"الريتويت" [4]، وقد أُلزم الناقد في محل ما، أن "يلعب اللعبة"، وإلا بات كائنًا خارج العصر والتاريخ والحضارة، وهذه اللعبة من دون قاعدة مكتوبة، أو نصّ. لكن يعرفها الجميع: انتماء أعمى إلى "جسم" ما، يقوم على الشكليات. بعدئذٍ، يصير الجسم كلّه فاسدًا بشكل بنيوي قاطع، حتى أنه ينسى علّة وجوده ومبادئ تأسيسه، ولماذا كان أصلاً ولأية أهداف... ويتوّج كلَّ هذا التوجه، السلوكُ الاستبدادي الذي يستند إلى قاعدة الولاء والنفاق وليس الكفاءة والثقافة، وهذا السلوك أيقونة عصر التفاهة بامتياز.

- النقطة الثانية: في ما يفترض أن يكون نقدًا افتراضيًا

صحيح أن العناصر التفاعلية التي يقوم عليها العالم الافتراضي، هي في مستوى ما، تعكس فلسفة الإيجاز، وتمحي الزمن الذي كان تستغرقه المدونة بين عنصري المرسل والمرسل إليه، إلا أنه من الملاحظ على مستوى النقد، هو ظاهرةُ انتقالِ نشرِ كتابةِ "عباراتٍ" من مواقع التواصل الاجتماعي إلى النشر الورقي أي الكتاب، ما يدفع الناقد العربي إلى طرح غير سؤال:
- هل يعتقد معظم هؤلاء، حقًا وفعلاً، أن ما ينشرونه يستحق النشر؟ أو يستحق أن ينتمي إلى النوع الأدبي؛ شعرًا أو رواية أو قصصًا،...؟ وفي معنى أدق: هل يستحق أن يعلّق على شجرة الأدب؟
يمكن القول إنه عندما يتلقّى المرء عشرات، بل مئات الدعوات، إلى توقيع الإصدارت الجديدة في معارض الكتب سنويًّا، يجعله يرتاب من هذه الظاهرة التي لا يغالي إذا سارع ونعتها بـ"المخيفة".
فمن باب التساؤل الذاتي الذي يسعى إلى وضع إطار نقدي تمهيدي لقراءة الظاهرة موضوعيًّا، نحن أمام تحطيم غير مفهوم حتى الآن، للقواعد الثلاث:
- الأديب/ الشاعر/ المبدع عمومًا
- العمل/ المنتج الأدبي
- المتلقي/ القارئ
إن خلخلة هذه القواعد تاريخيًا، كانت بسبب عوامل ومتغيرات اجتماعية واقتصادية وفلسفية وثقافية، فتنتج بدائلَ لها، سياقُها المفهوم والواعي عبر ارتباطها بمذهب من المذاهب الأدبية، أما ما يُلمس حاليًا، وتحديدًا على مواقع التواصل الاجتماعي، فلا يخرج على كونه، في معظمه، ثرثرة وسطحية، وهشاشة في بنائية النصّ، إن كان هذا النصّ شعرًا أم سردًا.
لذا، يمكن القول على المستوى النقدي، إن المسألة تتعلق تحديدًا بـ"الجرأة" على الكتابة، أي تحويل ما يُقال أو يُفكّر به، إلى حروف وكلمات وجمل على الورق، فما يحدث على هذه المواقع، هو إيهام صاحب "هذه الكلمات" من خلال "اللايكات" أو التعليقات العابرة، أنه "مبدع"، وهذا ما يدفعه إلى ارتكاب "جرأة" أكثر خطورة، وأكثر تأثيرًا (والكلمة هنا بالمعنى السلبي) عبر اصداره كتابًا ورقيًا.
لذا، ما يبدو لافتًا للانتباه في هذه الظاهرة، هو تحوير وظيفة الناقد التاريخية وطبيعته، وقد أصبح في هذه الحالة، يوازي كمية "اللايكات" (أو اعادة التغريد) والتعليقات التي يتلقّاها صاحب الكلمات عند النشر الإلكتروني.
في طبيعة الحال، ليس الهدف هو منع هذه الظاهرة التي يجوز أن تمتد وتشتد في المستقبل، ويجوز العكس، أي أن تنحسر وتتراجع، إنما الهدف هو السعي إلى تأطير موضوعي للظاهرة ودراستها، وبحثها. ولا شك في أن المسألة تتخطى قدراتي وقدرات أي ناقد؛ إذ تحتاج إلى البحث في غير مستوى عبر تعاون المؤسسات الأكاديمية العربية المعنية، لتحديد وتأطير وتحليل الآتي:
‌أ- المستوى الأدبي الفني لما يكتب؛ أي المنتج، وهو من مهام نقّاد الأدب (أي العمل/ الإنتاج الأدبي)
‌ب- المستوى النفسي بهدف فهم الأسباب التي تدفع هذه الظاهرة إلى التفاقم، ولماذا تكتب؟ ولمن تُكتب؟ وما الهدف من كتابتها؟ (أي حالة الكاتب)
‌ج- مستوى يرصد التفاعل مع هذه الظاهرة، وأسبابها: هل هي تنبع من تقدير حقيقي للنصّ المكتوب، أو مجاملة لكاتبه، أو ثمة غايات وأهداف أخرى؟ (أي حالة المتلقي/ القارئ(.
قد يرى بعض النقّاد أن هذا الموضوع لا يستحق كلّ هذه الضجة، وقد يرى آخرون العكس، لكن بين هذا وذاك، هناك "جرأة" على ارتكاب فعل الكتابة الأدبية (شعرًا، وقصةً، وروايةً،...) على نحو لم يعد من الممكن التغاضي عنه، والمرور عليه مرورًا عابرًا، وقد تخطت المسألة كتابة عبارة انفعالية هنا أو هناك (على جدران مواقع التواصل الاجتماعي) إلى نشره واصداره في كتاب؛ لذا، هل لنا أن نعي حقًا: معنى الكتابة، ومعنى الكتاب، أم أن عقلية بسط سيطرة "التسطيح" في كل شيء، لن تبقي شيئًا يمكن أن يعتد به أحفادنا في المستقبل؟

- ثالثًا: في الواقع الأكاديمي الجامعي

في هذه النقطة أود الإشارة بإيجاز إلى نقطتين: القراءة، والمرحلة الجامعية.
ففي الأولى: لا يرى البحث ثمة مشكلة في القراءة، لأنها قائمة فعلا؛ فالإنسان عمومًا، والطالب خصوصًا، يقرأ باستمرار، وهو يفعل ذلك من دون أن ينتبه: فهو يقرأ ما يُعطى له من محاضرات، ويقرأ ما يرسل له من رسائل أو طرائف، أو حكايات قصيرة عبر التقنيات الرقمية، وهو يقرأ ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يقرأ ترجمات الأفلام الأجنبية، وغيرها الكثير. لذا، لا توجد مشكلة في ممارسة فعل القراءة، إنما المأمول في هذه النشاط المتواصل يوميًّا، أن يُوجّه إلى ما هو الأنسب، والأكثر تأثيرًا في تشكيل وعي الطالب.
يلحظ إذًا، وعلى الرغم من وجود فوضى عارمة في التعاطي مع التقنيات الجديدة، فضلاً عن استخدام لغة ركيكة غالبًا، أن هناك ممارسة لفعل القراءة، وهي إذ تسلك حاليًّا دروبًا غير مثمرة ومفيدة عمومًا، إلا أنها تشكل أرضية يمكن البناء عليها للتفكير بعقلية جديدة في مقاربة ترغيب الإنسان العربي عمومًا، والطالب خصوصًا، بالقراءة....
ليس من المفيد إطلاق النعوت والصفات السلبية على ظاهرة الثورة التقنية (التكنولوجية) وأدواتها، بل المفيد الآن، هو تثميرها للانطلاق من خلال المساحة الشاسعة التي وفّرتها، نحو توظيف أساليب وطرائق فاعلة لتشجيع الناس على القراءة بلغة صحيحة، تلامس الإبداع قدر الإمكان، أو ما يمكن الإشارة إليه، بالتدرج في أنماط القرّاء: من القارئ العادي، وصولا إلى القارئ الكاتب نفسه، مرورًا بالقارئ الناقد [5].
(عمومًا هذه المسألة تحتاج إلى توسع أكثر، لكن لضيق الوقت يمكن الاكتفاء بذلك الآن).
أما في النقطة الثانية: فأخصّها للحديث عن المرحلة الجامعية حصرًا، وبإيجاز أيضًا، وهنا يمكن القول: إن من يتحمل مسؤولية الطلاق الحاصل بين الطالب والكتاب تحديدًا، هو الأستاذ نفسه، والسبب، برأيي، هو في من روّج لفكرة "الكورات" وسوّقها وعممها، هذه الكورات/الكارثة التي ترسّخ الجهل، والاستخفاف بكيانية الكتاب، وتضرب هيبته، فيتخرّج الطالب من الجامعة لا يوجد في بيته كتاب واحد، بل بضع أوراق، غالبًا ما تكون ممزقة، وغير صالحة حتى لمسح الزجاج، فضلا عن ضياع الكثير منها. لذا، إن بداية تصحيح الخلل، برأيي، تكمن في اعادة العلاقة بين الأستاذ والكتاب، لينقل في ما بعد هذه التجربة إلى طلابه. لأن ببساطة، فاقد الشيء لا يعطيه.
هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فيجب الاعتراف أن جامعاتنا لم تعد تخرّج طالبًا مثقفًا ناقدًا، بل ما يراه المرء، هو طالب لاهث لنيل شهادة بهدف الوظيفة، أو بهدف "البرستيج"، ويلحظ في هذا الجانب، وجود عشرات الرسائل والأطاريح المكررة، أو المرتكزة على مدونات هشّة لا ترتقي إلى مستوى الدرس النقدي، من دون نسيان التخبط الواضح في المنهج والمنهجية، وفي استخدام المصطلحات الأجنبية المعرّبة وتباينها بين جامعة وأخرى، وبين بلد عربي وآخر، وفي بنائية العمل الأكاديمي عمومًا.

- في الخلاصة

النقد العربي في مأزق لأن الواقع العربي الثقافي في مأزق؛ إذ هو من جهة يتكئ على مدارس واتجاهات أجنبية أقله منذ عصر النهضة حتى اليوم، وبالتالي لم يستطع أن يكوّن لنفسه هويّة خاصة به، ومن جهة أخرى، يواجه الآن، الحالة المتفشيّة في مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت، إذ تقزّم هذه المواقع، دور الدرس النقدي العلمي إلى "لايك"، و"كومنت"، و"تغريدة"...، وبات المرء يقيّم تجربته بناءً على عدد "اللايكات"، فينتقل من النشر العنكبوتي إلى النشر الورقي. وهذا المسار في أغلبه، مسار ورمي غير صحي، إذ عند وضع معظم هذه التجارب على مشرحة النقد والتحليل، يتبين أنها هشّة، وضحلة، فأغلبها خواطر وانطباعات و"ثرثرات".
وقد زاد الطين بلّة، أن العالم العربي لم يفهم روح بعض الأنواع الأدبية الجديدة وتقنياتها وسماتها، وعندما بدأ يلتمس طريقَها، ظهرت اتجاهات في كتابة هذه الأنواع، وقد أصبح هناك بون شاسع بين النقد والكتابة الإبداعية عمومًا، إذ عند تعداد الدراسات النقدية الجادة والنوعية والتجاوزية، ولا سيما في الدراسات الأكاديمية الجامعية، نجد أن عددها خجول جدًا أمام شساعة عالم الكتابات الإبداعية، هذا العالم الذي لم يعد وجوده على الورق فحسب، إنّما يتوسّع وجوده في كل ساعة، في العالم الفضائي المفتوح أيضًا.

♦ الهوامش

[1]- جملة للباحث والروائي والصحفي من الأوروغواي إدواردو غاليانو (Eduardo Galeano): "نحن نعيش أوج عصر التفاهة، حيث عقد الزواج أهم من الحب، مراسيم الدفن أهم من الميت، اللباس أهم من الجسد وقُدّاس الأحد أهم من الله".
[2]- جملة لأستاذ الفلسفة والعلوم السياسية الكندي ألان دونو (Alain Deneault)، ينظر: ألان دونو: التفاهة (La médiocratie)، وموقع الدكتور صبري محمد خليل خيري: قراءه منهجية لكتاب (نظام التفاهة) للفيلسوف الكندي المعاصر ألان دونو. تاريخ الزيارة: 16 حزيران 2019. https://drsabrikhalil.wordpress.com
[3]- مصطلحات يستخدمها مشتركو مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدًا "الفايسبوك" (facebook)، والـ"تويتر" (Twitter) للتعبير عن إعجابهم بمنشور ما.
[4]- "إعادة التغريد" (retweet) مصطلح يستخدم في موقع تويتر.
[5]- تتوزع فئات القرّاء على ثلاث فئات، هي:
- القارئ العادي الذي يكتفي باستهلاك العمل.
- القارئ الناقد الذي يتخذ من العمل مادة للتحليل والتأمل.
- القارئ الكاتب نفسه الذي يعد عمله بمثابة فسيفساء من النصوص التي سبق له أن قرأها.
للمزيد، ينظر: د. رشيد بنحدو: العلاقة بين القارئ والنص في التفكير الأدبي المعاصر، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 23، ع 1 و2 يوليو(تموز) – سبتمبر (أيلول) – أكتوبر (تشرين الأول) – ديسمبر (كانون الأول) 1994، ص491 وما بعدها. ود. صالح هويدي: المناهج النقدية الحديثة أسئلة ومقاربات، دار نينوى، دمشق 2015، ص 142 و143.

كامل صالح - kamel saleh


ليست هناك تعليقات:

جديد الموقع

#صباحكم_ومضة

اقرأ أيضًا

الأكثر مشاهدة