أ.د درية فرحات |
♦ أ. د. درية فرحات
جريدة البناء
تتجلّى أركان القصة القصيرة جدًا في القصصيّة والتّكثيف، فهذا النّوع يتميّز بقصر الحجم والاعتماد على الإيحاء المكثف، بالإضافة إلى سمة التّلميح والاقتضاب، واعتماد النّفس الجملي القصصي المرتبط بالحركة والتّوتر مع الميل إلى الحذف والإضمار، أمّا التّقنيات فتتمثل في خصوصية اللغة والإنزياح والمفارقة والتّناص والتّرميز والأنسنة والسّخرية والمفارقة والتّنويع في الاستهلال والاختتام. وإذا كنا قد تناولنا بعض هذه الأمور في مقالات سابقة -نُشرت في هذا المكان- منطلقين من تأطير النّوع وتبيانه، فسنحاول في هذه السّطور الموجزة أن نقدّم قراءة في بعض القصص القصيرة جدًا، فالبناء النّظريّ لن يكتمل من دون التّطبيق.
الحدث القصصيّ من مستلزمات القصة، فإذا خلت منه تحوّلت إلى بوح وجداني، تقول الكاتبة ميشلين بطرس في قصّتها ويرشح... الغباء:
"حملهما عقد الزّفاف والجمع الغفير إلى تقطيع قالب الحلوى...
حلّقت العروس على بساط الأحلام لتبدّل ملابسها... عويل وصراخ، ندب وبكاء...
يحتضر بين يديها قائلًا: أحبّك، ويتحوّل الفرح إلى مأساة. بعد أشهر بقي الخبر طازجًا يُخبر على درجات عالية من السّخف.
الرّجال يتهامسون: يا لها من عروس شؤوم! النّسوة يهمزن ويلمزن: ماذا يعني، هل بقيت عذراء أم لا؟"
فإذا ما قرأنا النّص بعيداً عن عمق الدّلالة، وغاية القصد، سيكون نصًّا عاديًّا، وهو غير ذلك، ففي هذا النّص نتلمّس مشهدًا يزخر بحالة إنسانيّة موجعة، يعبّر عن امرأة لم تهنأ بزواجها فيموت عريسها في ليلة الزّفاف، لكنّ تطوّر الحدث برز في اختلاف مواقف المجتمعين وكلّ منهم رأى ما حدث حسب وجهة نظر ترتبط بالجنوسة، فباتت بعرف الرّجال شؤمًا، وما شغل بال النّسوة ما توارثنه في مجتمعهن، وهو مبدأ العذريّة. فالحدث القصصي هو الفعل المحرّك في هذا النّصّ، وقد جاء متوترًا وفي حالة تصاعديّة، يتنامى وفق التّغيير الذي تصنعه الشّخصيات، فتبدّل الموقف من فرح إلى حزن، وكشف لنا النّفسيات الحقيقيّة، ومن هنا فإنّ قفلة القصة اعتمدت على المفارقة. ويمكن أن نستشفّ من النّصّ المفارقة اللّغوية من خلال الثّنائيات بين بساط الأحلام- يحتضر، الفرح- ماسأة، حملت دلالات في المضمون.
ومن الأركان الأساسيّة في القصة القصيرة جدًا التّكثيف وهو إيجاز لتفصيل الحبكة السّرديّة عبر التّركيز على استهلال وجيز، وصولًا إلى نهايات مفتوحة أو مغلقة، يقول الأديب محمد إقبال حرب في قصّته خيوط العنكبوت:
"سجادة شرقيّة نسجها حائك مغمور...
لم يُصلِ عليها أحد منذ أمد طويل
فتزاحمت عليها خيوط العنكبوت".
قصة تميّزت بقفلتها الرّمزية التي تنفتح على دلالات متعدّدة، وجاءت مكثّفة معبّرة عن اهتمامنا بالمظاهر، وإذا أخذنا البعد الدّلالي لكلمة (لم يصل) فنرى إنّها تشير إلى مدّعي الدّين، فلن تكون النتيجة إلّا سيطرة خيوط العنكبوت بما تحمله من دلالة على التّخلّف والجمود، أو ما تحمله من هجران أو فقدان الزائرين.
أمّا في قصّته "شكر"، فيبرز التّكثيف في الابتعاد عن الحشو والاطناب، فيقول:
"نقر العصفور كوز التّين وغرّد لله شاكرًا
رأى ابن آدم كوز التّين مشوّهًا... فرماه ولعن".
تحقّق عند محمد اقبال حرب في قصته الكتابة وفق أسلوب التّناقض المفاهيمي، والمفارقة بين موقف الطّير والإنسان ليشير القاص إلى الطّبيعة البشريّة، وقد اعتمد على الفعل الماضي الذي تواتر خمس مرّات: نقر-غرّد-رأى-رماه-لعن، وعلى الرّغم من أنّ الفعل الماضي يدلّ على الثبات، كون الحدث أُنجز وانتهى فإنّ النّصّ اكتسب الحركة المكثّفة من خلال حروف العطف التي تمنح النّصّ حركة متسارعة، فيتضّح لنا هذا الموقف المتعارض بين الطّير الشّاكر الراضي بنعمة الله، وبين الإنسان المنفعل الغاضب، أو بين ما تقوم به الطّبيعة من إعمار وبناء، والإنسان وما يقوم به من هدم ودمار، في نصّ قصير مكثّف.
ومن الأساليب الفنيّة المعتمدة في القصة القصيرة جدًا توظيف الرّمز، واعتماد القفلات المفاجئة الرّمزية، فتقول القاصّة سمية تكجي في قصّتها "الشّوك .. ملك:
"كان يقرأ نصًّا لفوليتر حين قال: إنّ لا بدّ من ملك بين الأشجار... الزّيتون يحمي زيته وشجر التّين يحضن تينه، والدّالية كذلك للعنب.... هنا الشّوك لاشيء يفعله لذلك هو الملك...
بدأت الوفود...
دخل الملوك...آاااااااخ
دخل الأمراء... آاااااااخ
دخلت الحاشية... آاااااااخ".
فالقاصة تلجأ إلى خاصية التّرميز وتترك المتلقي أن يكتشف ما أرادته من منح الشّوك تاج السّلطان، وما هذا الشّوك إلّا ما ارتضيناه نحن من حكام فاسدين بعد أن ارتضينا الطائفية والتّقوقع ضمن انتماءاتنا ومذاهبنا، ومن الطّبيعيّ أن نتألم من الشوك الذي قبلنا به، واللجوء إلى التّرميز يعود إلى أسباب مختلفة، وأهمّ ما في التّرميز أنّه يمنح القصة القصيرة جدًا بعدًا جماليًّا.
إنّ تحليل النّصوص الواردة يدفعنا إلى الاسترسال والاستفاضة والبحث في تقنيات القصة القصيرة جدًا، والمقام هنا لن يسمح بذلك، وهو ما يمكن أن يكون في دراسات لاحقة، نحاول من خلالها تثبيت النّوع وتأصيله وهو ما يهدف إليه ملتقى الأدب الوجيز إنْ كان من خلال مؤتمراته في لبنان وخارجه، أو عبر الأمسيات والحلقات النّقديّة التي يقيمها، أو عبر المقالات المنشورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق